تعتبر الهندسة بمفهومها العام ، من أول العلوم والمعارف التي اهتم بها الإنسان وأولاها أهمية ومكانة خاصة
بسبب ارتباطها الوثيق والمباشر ببيئتـه المحيطة وكنتيجة لتعاملاته ونشاطاته المختلفة ، فوظف مبادئ
الهندسة في بنـاء المنازل وتشييد المنشآت وتقسيم الأراضي وقس على ذلك . وفي القرن الثالث
قبل الميلاد تبلورت الهندسة في صورة منطقية ونظامية واكتسبت طابعا رياضيا على يد علماء الإغريق
الأفذاذ وعلى رأسهم العالم السكندري إقليدس ، إذ قام هذا الأخير بجمع كل معارف عصره المتعلقة
بالهندسة المستوية في مؤلف ضخم سماه "العنـاصر" ، كان هذا الكتاب من أوائل التي ترجمت إلى العربية
في العصر الذهبي وكان تأثيره على العلماء المسلمين كبيرا جـدا .
لم تكن الهندسة المستوية (أو الإقليدية) مجرد علم بحـت مبني على مسلمات ومبرهنات منطقية وجلية فحسب
بل اعتبرت هذه الهندسة أساسا لبنية الكون المادي ، أي أن الكون "إقليدي" يخضع لمبادئ الهندسة المستوية .
لذلك اعتبر هذا النظام الهندسي جوهر الوجود المادي والمثال الأقوى للمعرفة اليقينية المطلقة لمدة طويلة
(أكثر من 2000 سنة) . ونظرية نيوتن في الجاذبية والحركة أقوى دليل على هذه النظرة الهندسية للكون
(في الواقع الكون له بنية غير إقليدية كما بين أينشتاين في نظرية النسبية العامة) .
وقد كان أبو الفلسفة الحديثة ، الفيلسوف والرياضي الفرنسي الكبير رنييه ديكارت (القرن السابع عشر)
متأثرا جدا بهذا النظام الهندسي البديع . قام ديكارت مؤسس المذهب العقلي الإستقرائي الذي يعتبر العقل
البشري المصدر الأول والأخير للمعرفة بتطوير الهندسة المستوية وتوسيع آفاقها وذلك بدمجها مع فرع آخر
من الرياضيات : الجبـــر Algebra .
إن فكرة دمج الهندسة مع الجبر فكرة قديمة تعود جذورها إلى نهاية القرن الثامن الميلادي علي يـد
الرياضي الفـذ محمد ابن موسى الخوارزمي مؤسس علم الجبر ، فقد قام الخوارزمي بحل المعادلات الجبريـة
التربيعية والتكعيبية بتوظيف مبادئ الهندسة المستوية ويظهر ذلك جليا في كتابه الشهير الجبر والمقــابلة .
إلا أن فكرة ديكارت كانت أعمق وأهم بكثير ، كما أسلفت سابقا قام ديكارت بدمج مبادئ الهندسة المستوية وقواعد الجبر
ليشكل نوعا جديدا من التفكير اليراضي الذي ندعوه اليوم : الهندسة التحليلية Analytic Geometry .
باختصار ، الهندسة التحليلية تمكننا من التعبير عن المفاهيم والأشكال الهندسية بدلالة معادلات جبرية والعكس ،
أي التعبير عن المعادلات الجبرية بمفاهيم وأشكال هندسية وتمثيلها بيانيا ، ولكي نفعل ذلك لا بد من توظيف
واستخدام مـا يسمى بـ : نظام الإحداثيات . نظام الإحداثيات هو طريقة لتمثيل النقط والمنحنيات البيانيـة
المختلفة في المستوي بدلالة أزواج من الأعداد الحقيقية ، وأعتقد أن الجميع يدرك هذا الأمر جيدا وتعامل معه كثيرا .
إن عملية إيجاد معادلة جبرية تصف شكلا هندسيا معينا تعتمد على التعريف الهندسي لهذا الشكل ، ولإيضاح
هذا المعنى فلنأخذ مثالا .. الدائرة ، ما هو تعريف الدائرة ؟ بالطبع الدائرة هي مجموعة النقط من المستوي
M=(x;y)f التي لها نفس البعد (نصف القطر) r عن نقطة ثابتة تدعى مركز الدائرة O=(a;b)f . انطلاقا
من هذا التعريف وبعض القواعد الهندسية البسيطة الخاصة بحساب المسافة وباستعمال نظام احداثيات ( وهذا أمر
مهم إذ أنه بدون نظام احداثيات معادلة الدائرة عديمة المعنى !) نجد أن معادلة الـدائرة هي :
ولنأخذ مثالا نموذجيا آخر حول توظيف الهندسة التحليلية لإيجاد المعادلة الجبرية التي تصف أحد الأشكال
الهندسية المعروفة ، وليكن على سبيل المثال لا الحصر : الإهـليـج (القطع الناقص) Ellipse .
[عزيزى الزائر لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد التسجيلللتسجيل اضغط هنا]
الجدير بالذكر أنه بتطبيق قانون نيوتن في الجاذبية وقانونه الثاني على حركة الكواكب حول الشمس لإيجاد
معادلة مسارها نحصل على معادلة الإهليج الموضحة أعلاه ، أي قانون كبلر الأول الذي اكتشفه كبلر بالرصـد
والقياسات (تجريبيا) اشتقه نيوتن بنظرية علمية مجردة (نظريا) ! . في الواقع ، اشتقاق قوانين كبلر لحركة
الكواكب يعتبر أحـد النجاحات العظيمة لقانون الجاذبية النيوتنية .
سرعـان ما فرضت الهندسة التحليلية نفسها بقوة في مجالات أخرى ، مثل الفيزياء ، وتحديدا الميكانيكا ،
إذ أن دراسة حركة جسيم بدون نظام إحداثيات ليس لها معنى ، فلا بـد من نظام إحداثيات "مناسب" لدراسة حركة
الأجسام ووصفها كميا وتحليلها شعاعيـا (باستخدام المتجهات) .
وفي الأخير لا يسعني سوى القول بأن اكتشاف الهندسة التحليلية كان من أعظم إنجازات الرياضيات الحديثة
لا تفوقه إلا خـارقة الحسبان ، أي حساب التفاضل والتكامل المكتشف على يد كل من نيوتن ولبنتيـز والذي
يعتبر ـ التفاضل والتكامل ـ أقوى أداة نظرية على الإطلاق ابتكرها الفكر البشري الخلاق لمعالجة وتحليل المشاكل الرياضية .
نشر ديكارت عمله في الهندسة التحليلية عام 1637 في كتابه الثوري : الهندســة La Géométrie .
[/cc]
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك