منتدى لغة الروح - تثبيـت النيتروجيـن

تثبيـت النيتروجيـن

يوفِّر مركَّب حديد بسيط فرصةً لتحديث الكيفية التي يُصَنَّع بها الإمداد العالمي من النشادر.
حينما يدور الحديث عن العمليات الطبيعية للنباتات، فإن عملية البناء الضوئي تقع في بؤرة الاهتمام. وإذا ما استطاع الباحثون أن يحاكوا ـ بصورة فعالة ـ مقدرة هذه العملية على تحويل ضوء الشمس إلى طاقة، فإن هذا يَعِدُنا بانتهاء مشكلات الطاقة، إلا أنهم لم يستطيعوا فعل ذلك حتى الآن، لكنهم صادفوا حظًّا أكبر في تسخيرهم ومحاكاتهم لعملية تثبيت النيتروجين، التي على الرغم من أهميتها..
لم تلق نصيبها من الترويج. وتتلخص تلك العملية في تحويل نيتروجين الهواء الجوي إلى نشادر، ويمكن استخدامها من قِبَل النباتات؛ لتخليق الحمض النووي، والحمض النووي الريبي، والبروتينات. كما يمكن استخدامها أيضًا من قِبَل الصناعة؛ لإنتاج المُخَصِّبات والمتفجرات. وقد أعلن الكيميائيون عن اكتشافهم لجزء مهم من المعضلة، إذ تَعَرَّفَ جوناس بيترس وزملاؤه ـ في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك) في باسادينا ـ على مُرَكَّب حديد صغير، يقوم بتحفيز هذا التحويل بصورة فعّالة.

يأتي هذا الاكتشاف بعد مرور قرن كامل من عمل كارل بوش على النيتروجين في أوباو بألمانيا، تلك الخطوة التي قادت إلى موت الملايين من البشر، وإلى ولادة وبقاء مليارات آخرين. عمل بوش على توسيع نطاق تفاعل مختبري، يزاوج ما بين نيتروجين الهواء الجوي والهيدروجين المنتَج من الغاز الطبيعي؛ لإنتاج النشادر المصنَّع.
وتُطْلِق المَراجعُ على تلك العملية اسم «هابر»، تَيَمُّنًا بالكيميائي الألماني فريتز هابر، الذي توصَّلَ إلى ذلك الاكتشاف العلمي الكبير، إلا أنه من الأنسب أن يُطلق عليها اسم «هابر-بوش»، حيث حاز كلٌّ من هابر، وبوش جائزة «نوبل»؛ مكافأًةً لهما على إنجازاتهما.

من الصعب أن نبالغ في وصف مقدار تأثير عملية «هابر-بوش». يوضِّح أحد الرسوم البيانية المنشورة عام 2008 (ذلك العام الذي وافق مرور قرن على تاريخ إصدار براءة الاختراع لهابر) الكيفية التي صاحبت فيها الزيادة في عدد سكان العالم منذ عام 1960 زيادة في استخدام المُخَصِّبات النيتروجينية . إ
نّ النمو السكاني كان واحدًا من أهداف هابر في تطويره لعمليته، بسبب سهولة الحصول على المُخَصِّبات، وبالتالي الحصول على الغذاء. وكان هدفه الآخر هو تمكين ألمانيا من إتقان علم الذخائر. وتَطَلَّبَ الهدفان زيادة الإمداد الصناعي من النيتروجين المثبت من عدة مئات من آلاف الأطنان التي كانت متاحة للاستخدام بصورة سنوية في بداية القرن العشرين، حينما كان الإمداد يعتمد على الموارد الطبيعية، مثل الجوانو، ومعدن ملح البارود (نترات البوتاسيوم، ونترات الصوديوم).

تَحَتَّمَ على بوش أن يعالِج النيتروجين والهيدروجين تحت ضغطٍ وحرارةٍ مهولتين؛ من أجل إجراء عملية التحويل إلى النشادر. وفي الصناعة، ما زالت هذه العملية تُجْرَى بذات الطريقة المكلفة شديدة الاستهلاك للطاقة.

النقطة الأهم هي أن التخليق الذي تصفه المجموعة البحثية من كاليفورنيا يحدث تحت ظل ظروف معتدلة، وصديقة للبيئة، وهي ذاتها التي تحدث في ضوئها هذه العملية في الطبيعة.. (حسنا، حينما يحدث التحويل في التربة، توجد طريقة إضافية لتثبيت النيتروجين، وهي فِعْل الوَمْض الحارق لضربة البرق). وقد تَفَحَّصَ بيترس وزملاؤه الإنزيمات والعوامل المساعِدة التي تصنع النشادر في جذور بعض النباتات، مثل البقوليات.
كذلك عُرِفَ منذ عقود أن الحديد مهم للعوامل المساعدة تلك، إلا أنّ سبب وكيفية قيامه بذلك ظلّا لُغْزَيْن. ولفترة من الزمن تَحَوَّلَ الاهتمام إلى عنصر المُولِيبدِينَم، الذي أوضح الكيميائيون أنّ بمقدوره أنْ يساعد في صناعة النشادر، إلا أن البيانات الكيميائية الحيوية والطَّيْفيّة جدَّدت من التركيز على الحديد. وتدعم النتائج التي توصَّل إليها علماء «كالتك» أنّ: (بمقدور مركب الحديد الذي تعرّفوا عليه أنْ يقوم بهذه المهمة، دون الحاجة إلى المُولِيبدِينَم).

استغرق بوش أقل من خمسة أعوام؛ لتسويق اكتشاف هابر تجاريًّا، ولإحداث ثورة بالإمداد الصناعي من النشادر. وقد يحتاج الباحثون إلى فترة زمنية أطول؛ من أجل أن يبنوا على هذه النتائج الحديثة، إلا أن لديهم ـ على أقل تقدير ـ أرضيّة ينطلقون منها.

لطالما كانت الرهانات في هذا المجال كثيرة.. ففي القرن التاسع عشر، خاضت بيرو وتشيلي حربًا على الجوانو. وحينما حُرِمَت ألمانيا من الحصول على ملح بارود شيلي خلال الحرب العالمية الأولى، قدَّمَتْ عملية «هابر- بوش» لها وللعالم بديلًا، أحكمت القبضة عليه تمامًا. وطوال الوقت، ظلت البقوليات ـ مثل البرسيم، والفول السوداني، ونبتة الفِصْفِصَة ـ تقوم بعملياتها المناظِرة بهدوء وبصورة فعالة. وبعد انقضاء قرن على عمل بوش، يمكن للعلماء أن يساعدوا في كتابة فصل جديد من قصة النشادر.